نوران



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

نوران

نوران

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
نوران

منتدى اسلامي ثقافي علمي عام ... تخليدًا لذكرى اختنا نوران ( رحمها الله)

@@  عدنا @ اليكم@ من @ جديد@ ولن@ ننقطع@ عنكم@ ان @شاء@ الله@@

    وابصر الأعمى

    الامل البسام
    الامل البسام
    Admin


    عدد المساهمات : 555
    نقاط : 1253
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 03/07/2009
    العمر : 52
    الموقع : سماء بلادي

    وابصر الأعمى Empty وابصر الأعمى

    مُساهمة من طرف الامل البسام السبت أكتوبر 17, 2009 11:47 pm

    و أبصر الأعمى



    بقلم د.عبدالمطلب بن أحمد السح

    استشاري طب الأطفال و حديثي الولادة في مستشفى الحمادي

    عضو الجمعية الوراثية الأمريكية و الجمعية الأوروبية للوراثة البشرية

    عضو الجمعية العالمية لأبحاث الضعف البصري

    العنوان: الرياض 11323 ، ص.ب 285264

    جوال 053481015 ، هاتف 4643312 تحويلة 2329

    فاكس 2791867

    Email: dr_alsah@yahoo.com


    فتحت باب الدار لأجد أمامي شاباً وسيما يرتدي لباساً مزج بين المدينة و الريف ، لقد باح حذاؤه الملطخ بطين القرية المعطاء بأسرار سبقت الضيف إليّ ، أما الشعر الأسود المغسول بمطر الشتاء فقد كان يقطر ماءً يعانق دموعاً على وجنتين احمرتا ببرد كانون القارس ، اقتربت منه لأصافحه ، و كانت أشعة الشمس خجلى بين الغيوم الداكنة ، و قرأت في وجهه فرحة اللقاء ، و بين السطور كان الحزن يرسم لوحة لقلب جريح ، قال : السلام عليكم يا دكتور عبدالله ، أسعد الله صباحك ، أنا سعيد بن علي الحسين ، أجبته : أهلاً يا عمو سعيد ، لقد أصبحت رجلاً _ ما شاء الله _ ، كيف حال أبيك و أهلك ؟، تفضل ادخل يا عزيزي ، قال :الحمد لله يا دكتور ، لقد أرسلني والدي بهذه الرسالة إليك ، و أخرج من جيبه كيساً من النايلون الأسود و قد أحكم ربطه على رسالة خشية أن يصيبها البلل ، طلبت منه أن يدنو من المدفأة التي كانت تقذف بحمم من اللهب الزرقاء والصفراء و الحمراء ، أخذت الكيس و فتحته ، لقد كان أبوه أحد المعروفين بالتقوى في قرية تل الينابيع ، و كما يقال كلمتهم مسموعة ، أخرجت الرسالة المطوية ، و ماهي إلا هنيهات حتى سار دمع جليدي على خديّ ، و سَرَت بعده برودة قطبية في عروقي ، و نبست شفتاي بعبارة : يرحمك الله يا أبا عدنان و يتغمدك بواسع رحمته ، لم تكن الرسالة إلا وصية أبي عدنان بأن توضع كل أمواله و أملاكه تحت تصرفي من أجل الأبحاث الخاصة بالعميان .

    لقد كان أبو عدنان ( محمد الدويس ) صديق الطفولة التي عشناها أياماً لن يقوى الزمن على سلخها من الذاكرة ، لقد ترك محمد المدرسة و هو في الصف الرابع الإبتدائي ، و صار يساعد والده في عمله التجاري ، و عندما أصبحت أنا في المدرسة الثانوية في القرية المجاورة لم أعد أرى صديقي إلا قليلاً ، أما في سنوات الجامعة فقد كانت تمر الأشهر الطويلة دون أن ألتقي بمحمد .

    لقد درست الطب ، و ربما كان لجدي محي الدين _ يرحمه الله _ تأثير كبير في دخولي كلية الطب ، و من ثم تخصصي في طب العيون ، لقد كان مصاباً بالداء السكري ، و كنت أسمع منه كلاماً كثيراً حول ذلك المرض جعلني أكرهه قبل أن أعرف ماهيته ، لقد أثر السكري على عيني جدي ، و لا زلت أذكر تلك النظارات الخضراء السميكة التي كانت تشغل حيزاً كبيراً من وجهه القمري ذي اللحية الكثة البيضاء .

    لقد كان صديقي أبو عدنان يكره المعاقين أو " المشوهين " كما يسميهم ، و من ضمنهم العميان ، لقد كنا نسمع منه كلمات السخرية و الإستهزاء بهم بشكل متكرر ، و لطالما حذرناه أنا و غيري من ذلك ، كنت أقول له : اتقِ الله يا أبا عدنان ، لقد خلق الإنسان في كَبَد ، إن أي إنسان معرض في أي لحظة ليتحول إلى معوق مثل هؤلاء يا أخي محمد ، و لكن صوت " أرغيلة " أبي عدنان كان يصل لأذنيه دون كلامي ، و منظر الدخان المتصاعد منها كان يسر ناظريه أكثر من نصائحي .

    لقد عرض علي الأموال مراراً كي أترك الجامعة و الطب و أعمل معه ، و كان يقول عبارته الشهيرة أنت المخ و أنا المال ! ، ما رأيك يا عبدالله ؟، كنت ابتسم له و أقول : الله يهديك يا أخي محمد ، فيتابع و يقول : على الأقل ادرس شيئاً تستفيد منه و تفيد ، مالك و للعيون ؟!.

    لقد كانت وفاة ابنه عدنان _ يرحمه الله _ و هو في السادسة من عمره إثر إصابته بالتهاب في الدماغ نقطة تحوّل حقيقية في حياته ، لقد اقترب من حياة الناس و همومهم ، و صار يفهم معنى المرض و الوفاة و ربما الإعاقة ، لقد بدأ ميزان المال يخبو في عقله ليحل مكانه ميزان آخر ، و ما هي إلا سنوات حتى أتاه امتحان قاصم آخر ، فلقد توفيت أم عدنان _ يرحمها الله _ التي كثيراً ما كانت تبكي عندما تراه يسيء بلسانه لعباد الله المعوقين .

    منذ عشر سنوات زرت قرية تل الينابيع ، و كالعادة جاء أبو عدنان ليسلّم علي ، و بعد أن ذهب الجميع ، و بقي معي صديق الطفولة لوحده ، و كانت عقارب الساعة تدنو من الثانية و النصف صباحاً ، قال لي أبو عدنان : أريد أن أكلِّمك يا دكتور بموضوع ، و لكنني خجل حقاً ، قلت له باسماً : قل يا رجل، هات ما عندك ، هل تخجل مني ؟ ، لا ..لا يحق لك ذلك أبداً .

    مدَّ يده المرتعشة إلى جيبه ليخرج نظارات بإطار أخضر غامق أدارت سنين ذاكرتي إلى وجه جدي البشوش ، و ظننت أنه سيعطيني إياها ، و لكنه فاجأني بوضع العدسات على وجهه الذي بدأ الزمان يطغى على تورده ، و هنا لم أتمالك نفسي فضحكت ، و قلت له : خيراً - إن شاء الله - يا أبا عدنان ، ماذا حدث ؟ ، قال لي : أرأيت ؟ ، ألا يحق لي أن أخجل من نفسي قبل أن أخجل منك ؟ ، يا رب سامحني ، كم سخرت من أولئك المساكين ؟، لقد شعرت بضعف في بصري منذ مدة، و لأنني خجلت من هذا الأمر لم أذهب إليك في العيادة ، و كنت أحتفظ بنظارة المرحوم في الصندوق ، و عندما جربتها وجدت أن الأمور أفضل ، و صرت أخذها معي حيثما ذهبت ، و عندما يلزم الأمر أضعها دون أن يلحظني أحد ، و لكن نظري كان يزداد ضعفاً بمرور الأيام يا دكتور ، و الله مصيبة يا أبا همام .

    قلت له : أنا عاتب عليك يا أبا عدنان ، هل تخجل من أخيك في قضية كهذه ؟، و ردّ علي بسرعة يعتصرها الحزن و الألم : أشعر بالخجل من كل الناس ، ماذا سيقولون عني إن شاهدوني أضع النظارات ؟ ، أجبته بثقة : لن يقولوا شيئاً ، لأنك الآن إنسان آخر بنظرهم ، و تابعت مازحاً : لقد نسي الناس أبا عدنان الهمزة اللمزة ، أنت الآن … ، و قاطعني و هو يهز رأسه : لا …لا … أنا … ، قاطعته بالمثل مشجعاً إياه ، و استمر منوال الحديث ينسج ليلتنا الصيفية تلك و التي كاد القمر أن يكون فيها بدراً ، لقد تحدثت معه و ربما لأول مرة و بإسهاب عن أمراض العيون ، و خرجنا من المنزل سوية لصلاة الفجر و النظارات العتيقة مبتهجة بتربعها على مقدمة وجهه .

    في يوم السبت جاء أبو عدنان إلى عيادتي ، و فحصت عينيه ، و عرفت أن إصابته ستودي ببصره في يوم ما ، و صفت له نظارة مناسبة ، و شعرت أنه قد عرف بعضاً من خبايا الأيام .

    لقد كان تلميذُ الحياة _ و منذ مدة _ سنداً قوياً لي في أبحاثي ، لقد أغدق عليّ المال ، و أحيانا كان يجلس معي في المختبر بصمت و سكينة يرقب عملي ، و يحاول خدمتي بأي شكل كي لا أضيّع أي ثانية من الوقت .

    لقد فقد صديق العمر بصره حقاً بعد سنوات قليلة ، و لكنه كان يحمد الله على الدوام ، لقد كان كثير التردد على مختبري برفقة سعيد ابن جاره الذي تعهد أبو عدنان تدريسه على نفقته الخاصة .

    لقد عملت في مختبري مع فريق صغير ، و كان يوماً رائعا عندما استطعنا ربط عملنا بمركز البحوث العلمية الذي زودنا بألياف خاصة يمكن توصيلها إلى الدماغ ، فقد أنجزنا عدسات بصرية اصطناعية ، و الآن أضحى بإمكاننا تطبيق ذلك عمليا ، لقد كان أبو عدنان أول المتبرعين للخضوع للتجربة التي ارتقبها الكثيرون ، لقد كان يثق بي بشكل يدفعني للعمل أكثر ، و في اليوم المحدد دخل غرفة العمليات و هو يتمتم بالدعاء ، و بعد أكثر من ثلاث ساعات خرج منها ، و عندما أفاق من تأثير المخدر ، و تحركت جفونه على عينين اصطناعيتين ، صاح بأعلى صوته : لا إله إلا الله ، و أجهش بالبكاء .

    http://www.arabmedmag.com/general/issue-15-06-2003/general03.htm

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين نوفمبر 25, 2024 10:43 am